موثوقية الذاكرة البشرية
في ليلةٍ جميلةٍ والسماءُ
صافية، رفعتَ مقلتيك نحو السماء متأملًا سحر النجوم، لكنك لاحظتَ جسمًا صغيرًا يتحرك.
الآن، هل تتذكر ما قرأته في الجملة الأولى؟ كيف تمكنتَ من تذكر ذلك؟ ما هي القدرة التي
تمتلكها وجعلتك تتذكر؟ هل خزّنتَ الجملة في مكانٍ ما في دماغك؟ كيف يمكنك استرجاع الذكريات
السابقة؟ هل كل ما تسترجعه حقيقي أم قد يكون مزيفًا؟ يتناول المقال التالي هذه الأسئلة
من منظور فلسفي وعلمي، مستندًا إلى كتاب رقصة القمر مع آينشتاين لجوشوا فوير، وكتاب
قوة العادات لتشارلز دويج، والبرنامج الصوتي آدم للدكتور محمد الحاجي، بالإضافة إلى
بعض الإضاءات من علم الأعصاب.
طبيعة الذاكرة
البشرية
تعتبر الذاكرة من
أهم القدرات العقلية التي يعتمد عليها الإنسان في كثير من جوانب حياته، فهي تصنع
شخصيته وقد تشكل قناعاته. نحن غالبًا ما نعتقد أنّ ما نتذكره هو انعكاس فعلي لما
حدث، ولكن كشف علم الأعصاب أنّ الذاكرة ليست مجرد مخزن ثابت للمعلومات، بل هي نظام
ديناميكي معقد من العمليات تشمل الترميز والتخزين والاسترجاع، وتتأثر بالعديد من
العوامل مثل التجارب السابقة، والمحفزات الخارجية، والعادات. فهل يمكننا فعلًا
الوثوق بما نتذكره؟
كشف جوشوا فوير في
كتابه رقصة القمر مع آينشتاين أن الذاكرة بناءٌ يخضع للتشويه دون أن ندرك ذلك. على
سبيل المثال، قد تتذكر حدثًا ما بإضافة تفاصيل لم تكن موجودة فعلًا، إذ تتغير
الذكرى بناء على معلومات تلقيناها بعد وقوع الحدث. يعرف هذا التأثير في علم النفس
ب "تأثير المعلومات المضللة"، إذ يمكن للمعلومات الجديدة إحداث تحريف في
الذكريات الأصلية. كما أن طريقة طرح الأسئلة يمكن أن تؤدي لاسترجاع تفاصيل غير
حقيقية؛ ومثال ذلك ترجيح مبالغة وصف شدة حادث سير إذا ما سُئل عنه باستخدام عبارات
مثل "حادث مروع" على عكس إذا ما طُرح السؤال بطريقة محايدة.
دور العادات في
تشكيل الذاكرة
شرح تشارلز دويج
في كتابه قوة العادات كيف تؤثر العادات على تشكيل أفكارنا وسلوكياتنا. وقد أشار
إلى أنّ الدماغ يعتمد على نمط متكرر يعرف ب "حلقة العادات" والتي تتكون
من ثلاث مراحل: الدليل، والروتين، والمكافأة. فمثلاً، إذا كنت تذهب للعمل كل صباح
وتحتاج إلى إخراج سيارتك من المنزل، ففي البداية تحتاج للتركيز في فعل ذلك، ولكن
مع مرور الأيام تترسخ لديك الحركة وتصبح بعدها تخرج سيارتك دون تركيز أو إدراك.
لكن العادات لا تساهم فقط في ترسيخ السلوكيات اليومية، بل تتعدى لتؤثر على طريقة
تذكرنا للأحداث. تخيل شخصًا اعتاد على شرب
القهوة كل صباح أثناء تصفحه لبريد عمله. مع مرور الوقت، يصبح هذا الروتين عادة
يومية يترافق معها الشعور بالنشاط والتركيز. ولكن ماذا يحدث إذا ما تفقد بريده
الصباح دون شرب القهوة؟ في الحقيقة قد يرافقه شعور النشاط والتركيز كما لو أنه شرب
القهوة. ما يحدث في هذه الحالة هو أن الدماغ ربط القهوة وتصفح البريد من خلال ما
يسمى ب "الارتباط الشرطي"، ونتيجة لذلك، أصبح تفقد البريد وحده محفزًا
كافيًا لإنتاج نفس الشعور، حتى لو كان العنصر الأساسي للشعور _القهوة_ غائبًا. وهذا يتوافق مع ما ذكرناه سابقًا؛ فالذاكرة لا
تعمل على استرجاع المعلومات بدقة، بل تعيد بناء التجربة اعتمادًا على أنماط وعادات
سابقة، مما يؤدي أحيانًا إلى تكوين تفاصيل غير حقيقية.
كيف تخدعنا
الذكريات؟
ناقش الدكتور محمد
الحاجي في حلقته من برنامجه آدم مع ضيفه الدكتور سعد الغامدي الحاصل على
دكتوراه في علم الإدراك وعلم الأعصاب كيف يمكن للذاكرة أن تكون أداة غير موثوقة.
مثلما ذكر في الحلقة أنّه أظهرت دراسات علم النفس المعرفي أنّ الذكريات ليست صورًا
ثابتة، بل تتشكل وتُعاد صياغتها في كل مرة تُستدعى وفقًا لعوامل عدة تؤثر على
دقتها. واحدة من أهم هذه العوامل هي تأثير المعلومات المضللة، حيث يمكن للذكريات
أن تتغير بناء على معلومات حديثة تم تلقيها بعد الحدث. أوضحت الدراسة التي أجرتها
عالمة النفس إليزابيث لوفتوس كيف يمكن للكلمات أن تؤثر على الذكريات، حيث عُرِض
للمشتركين مقاطع لحوادث سيارات ثم طلب منهم تقدير سرعة السيارة بعد اخبارهم بأوصاف
مختلفة للحادث، والنتائج أظهرت أن وصف الحادث بمصطلحات مثل "تحطمت"
بدلًا من "اصطدمت" أدى إلى مبالغة في تقدير السرعة. تداخل الذكريات يمكن
أن يكون عامل آخر مؤثر على دقة الذاكرة، إذ يمكن أن تؤثر التجارب اللاحقة على
الذكريات القديمة أو العكس. كما أنّ العاطفية تعتبر عامل مؤثر على دقة وتشكيل الذكريات،
حيث تميل الأحداث المرتبطة بالعاطفة القوية إلى تكوين ذكريات أكثر تذكرًا، ولكن
أكثر عرضة للتشويه. ذكر الدكتور سعد أنّ الحالة النفسية لها دور في نوعية الذاكرة
المستدعاه؛ فالشخص السعيد يتذكر الذكريات السعيدة والحزين يتذكر عكس ذلك. إذ
يستعرض الدماغ سلسلة من المواقف والذكريات التي تتناسب مع الحالة النفسية. لذلك
يحذر المعالجون النفسيون المصابين بالاكتئاب من ظاهرة "الاجترار" التي
تعد حالة يستدعي فيها المصاب ذكرياته التعيسة وكأنّه يجر بعضها بعضًا. كما يمكن أن
تتلاعب المثيرات الحسيّة بطريقة تذكرنا واستدعائنا لمواقف معينة؛ إذ تضيف للموقف
زخمًا وتفاصيل تساعد الدماغ على استرجاعه بسهولة.
تحسين دقة الذاكرة
مع التقدم في العمر، تضعف عملية معالجة المعلومات الجديدة. مع بلوغ
سنّ الثمانين، يفقد الدماغ 20-30% من الخلايا العصبية الموجودة في الحصين، الأمر
الذي يؤثر على الذاكرة الطويلة المدى كونه المسؤول عنها. إضافة لذلك، يتقلص الفص
الأمامي _ الذي يساهم في كبح المعلومات غير المهمة_ حيث تصير المشتتات الذهنية
والضوضاء أكثر تداخلًا، الأمر الذي يصعب تسجيل الذكريات الحديثة. ذكر الدكتور سعد
الغامدي أنه هناك عدة استراتيجيات فعالة لتحسين دقة الذاكرة مثل ممارسة الرياضة؛
كونها تعزز تدفق الأكسجين إلى الدماغ، الحصول على نوم كاف؛ لأنّ الدماغ يعمل أثناء
النوم على ترتيب الذكريات وأرشفتها والتخلص من غير المهم منها. أيضا الربط الذهني
والتكرار يساعدان على تعزيز دقة الذاكرة وتثبيت المعلومات بشكل أفضل. نظرًا للقصور الذي تمتلكه ذاكرتنا وطريقة
تذكرنا للأحداث، نجد أنّ الشريعة الإسلامية اهتمت بهذا الجانب بشكل كبير حيث تتطلب
وجود أكثر من شاهد في كثير من الحالات خصوصًا الحالات التي تتعلق بالأحكام الكبرى
تفاديًا لأي تلاعب قد تحدثه الذاكرة أو العاطفة في تلك الحالات.
الخلاصة
تظل الذاكرة البشرية بناء أساسيًا في حياتنا اليومية، لكنها ليست
معصومة عن الأخطاء. يمكّنُنا فهم العوامل المؤثرة عليها من تبني استراتيجيات تحسّن
من دقتها، مما يعزز من موثوقية المعلومات المعتمدة في قرارات حياتنا.
تعليقات
إرسال تعليق