مسألة محيط الأرض وحذق البيروني

كان الناس منذ الأزل على علمٍ بكروية الأرض، فكان قياس دورها (أي محيطها) من جليل مسائل الفلكيين، وفيها بحَثَ كثيرٌ من العلماء قديما وحديثا، ولقد تضاربت نتائج كل بحث واختلفت، يقتربون تارة ويبتعدون أخرى عن مقدارها الصحيح.


ولعل أُولى تلك المحاولات في قياسها قياسا علميا هي محاولة اليونانيَيْن إراتسثنس Eratosthenes المتوفى سنة 194 قبل الميلاد، ومحاولة بسيدونيوس Posidonius المتوفى سنة 51 قبل الميلاد، فإن هؤلاء ابتكرا طريقتين في قياس دور الأرض، إذ كانت نتيجة إراتسثنس 252000 إسطاديون، والإسطاديون وحدة طول يونانية قديمة اختلف في مقدارها كثيرا فمنهم من يرى أنه الأولمبي الذي يقدر بـ 192 مترا، ومنهم يرى أنه الإسكندراني الذي يقدر ب 155 مترا، وعلى هذه المقادير، تكون نتيجته بالإسطاديون الإسكندراني أقرب لمقدار دور الأرض الحقيقي. ولمزيدٍ من تفاصيل قياساتهم ارجع لكتاب علم الفلك تأريخه عند العرب في القرون الوسطى لكارلو نلينو.

 

العرب وقياسهم لدور الأرض

عندما اشتعلت العلوم نشاطا عند العرب والمسلمين، وكَلِفَ بعض الخلفاء بها، همَّ بعض المنجمين في قياس دور الأرض، فابتكروا طرقا تُعجب الحصيفَ من دقتها كطريقة منجمّي الخليفة العباس المأمون المتوفى سنة تـ218هـ وطريقة أبي الريحان البيروني المتوفى سنة 440هـ.

كان الخليفة العباسي المأمون مولَعًا بالعلوم والحكمة و "قد كان أخذ من جميع العلوم بقسط، وضرب فيها بسهم"[1]، وقد تطور بيت الحكمة في عهده حتى أصبح شيئا أشبه بالأكاديمية كما يقول د. خضر أحمد عطا الله[2].

ومن بين القياسات العلمية التي أمر بها، أمره لبعض فلكيي عصره بقياس دور الأرض، وذلك لتضارب قياسات القدماء. ودونكم تلخيص جميل ذكره البيروني في كتابه القانون المسعودي في هذا، قال:

"ولم يتصل بنا في هذا الباب كلام مسند إلى ذوي التحصيل غير ما ورد من جهة الروم والهند، وكل واحد منهما يخالف الآخر بمقدارٍ لا يكاد يتجه له وجه، وقد قدّر الهند دور الأرض بمسافة يشتمل على ثمانية أميال من أميالنا واختلف رأيهم في كل الدور. وقدروه الروم بمقدار سموه إسطاديا، وزعم جالينوس أن أراطسثانوس[3] قدّر به ما بين بلدي أسوان والإسكندرية، فإنهما على خطٍّ واحد من خطوط أنصاف النهار مثل بلدي تدمُر والرقّة، على أن أسماء تقديراتهم إذا وقعت إلينا لم يكد يهتدي لها قومنا بسبب اللغة واختلاف المفسرين فيها، ولهذا التفاوت العظيم بين رأي الفريقين فيها هو الذي بعث المأمون بن الرشيد على تجريد الاعتبار في برية سنجار من أرض الموصل على يد جماعة من المتقدمين في هذه الصناعة"[4]


ولن أخوض في طريقتهم لطولها، ولكني سأورد زبدة تحصيلهم، إذ أرسل المأمون بعثتين لقياس قوس من خط نصف النهار، وكان متوسط قياس الفريقين هو 56 وثلثان ميلا عربيا للدرجة واحدة منه، وكي يحسبوا دور الأرض ضربوه في 360 درجة[1]، وكان الناتج 20400 ميلا عربيا تقريبا، والميل العربي قدره كارلو نلينو بـ 1973.2 مترا، فيكون محيط الأرض إذن 40253.3 كيلو مترا تقريبا[2].

طريقة البيروني

وقد تفرد البيروني بطريقة في قياس دور الأرض تظهر حذقه في تحليل المسائل نظريا، أوردها السنيور كارلو نلينو[3]، قال البيروني:

"وفي معرفة ذلك طريق قائم في الوهم صحيح بالبرهان والوصول إلى عمله صعب لصغر الاسطرلاب، وقلة مقدار الشيء الذي يبنى عليه فيه، وهو أن تصعد جبلا مشرفا على بحر أو برية ملساء، وترصد غروب الشمس، فتجد فيه ما ذكرناه من الانحطاط ثم تعرف مقدار عمود ذلك الجبل، وتضربه في الجيب المستوي لتمام الانحطاط نفسه، ثم تضرب ما خرج من القسمة في اثنين وعشرين أبدا وتقسم المبلغ على سبعة، فيخرج مقدار إحاطة الأرض بالمقدار الذي به قدّرت عمود الجبل "

 

وطريقته هي أن تصعد جبلا معينا يكون على برية ملساء على الأفق، فتحسب زاوية الانحطاط، ثم من خلال قواعد النسب المثلثية تجد مقدار نصف قطر الأرض، ثم تضربه في اثنين وعشرين وتقسمه على سبعة لتحصل على مقدار الدور[4].

وتحليل كلامه رياضيا كالآتي:

بالنظر إلى الشكل (1)، افرض أن AB طول جبل، وBO نصف قطر الأرض المراد حسابه، وAC مماس يقطع الأفق من أعلى الجبل، واستعمالا للنسب المثلثية:

 

Sin (CAO)= CO / AO

Sin (90-α) =cosα

Sin (90-α) = BO/ (BO + AO) = cosα

(BO + AO) cosα = BO

BO cosα + AO cosα = BO

AO cosα = BO – BO cosα

AO cosα = BO (1 – cosα)

BO = AO cosα / (1-cosα) = radius of Earth


شكل (1)

 








ولم يقتصر البيروني ببيان طريقته نظريا، ولكنه طبقها، يقول بعد أن ذكر مشاق طريقة المأمون[5]:

"وعلى شدة حرصي أن أتولى الاعتبار واختياري له قاعا صفصفا في شمال دهستان التي بأرض جرجان، ثم عجزي عن المفاوز المتعبة والمعين الصادق عليه، عدلت فيه إلى طريق آخر لما وجدت بأرض الهند جبلا مشرفا على صحراء مستوية الوجه، ناب استواؤها عن ملامسة سطح الأرض، فقست على ذروته ملتقى السماء والأرض في المنظر؛ أعني دائرة الأفق، فوجدته منحطا في الآلة عن خط المشرق والمغرب بأنقص قليلا من ثلث وربع جزء، فأخذته أربعا وثلاثين دقيقة

وبعد أن فصّل طريقته وأسهب في بيان حساباته وجد أن حسابه قارب حساب بعثة المأمون فسكن القلب إليها، يقول:

"فقد قارب ذلك وجود القوم، بل لاصقه، وسكن القلب إلى ما ذكروه فاستعملناه، إذ كانت آلاتهم أدق وتعبهم في تحصيله أشدّ وأشقّ"[6]

إذن يتضح أيها القارئ العزيز أن طريقة منجّمي الخليفة المأمون تحتاج إلى فريق كامل، وهي بذلك أصعب عملا من طريقة البيروني، وإذا أنت أردت قياس محيط الأرض بغض النظر عن الدقة وكنت كالبيروني تفتقر إلى المعين الصادق فطريقته أفضل سبيل لذلك، إذ لا يتطلب منك شيئا غير معرفة شيئين، زاوية انحطاط الأفق وطول الجبل. وبهذا تظهر حصافة البيروني النظرية وفكرته المتوقدة في التحليل المجرّد.

 



[1] لأن الدائرة فيها 360 درجة تقسيما

[2] كارلو نلينو، علم الفلك تأريخه عند العرب في العصور الوسطى ص247

[3] المصدر السابق ص248

[4] وهي النسبة بين محيط الدائرة إلى قطرها، عدد الباي

[5] البيروني، القانون المسعودي ج2 ص23

[6] المصدر السابق



[1] الأخبار الطوال، الدينوري ص401

[2] بيت الحكمة في عصر العباسيين ص29

[3] هو إراتسثنس الذي ذكرناه قبلا 

[4] البيروني، القانون المسعودي ج2 ص21


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا السماء زرقاء وكيف يغير الضوء سرعته؟

في التكافؤ المنطقي بين مقولتي كلفن-بلانك وكلاوسيوس

مُعادلات البُنية النّجمية