ابن الهيثم ووهم القمر

 

عندما تنظر إلى القمر وهو في الأفق ثم انتظرتَ حتى يكون في السمت فربما لاحظتَ أنه كان أكبر حجما في الأفق منه في السمت، وهذا أمر قديم جدا، وقد سائل الناسُ بعضهم بعضا، واختلفوا في علته اختلافا شديدا، وذلك لأن أمر الرؤية نفسه شديدُ الغموض، والعين عضو شديد التعقيد، ثم إن اختلاف حجم الشيء له أسباب كثيرة، فإذا بنى العالِمُ علّته في هذا الوهم على أصول واهية غلط غلطا فاحشا وتناقضت أفكاره. وهذا التغير في حجم القمر يسمى حديثا بظاهرة وهم القمر.


وكان أول تعليق علمي لها قديما جدا، ذكرها أرسطو قبل ثلاثة وعشرين قرنا، ثم تتابع ذكر الظاهرة بعده، فذكرها بطلميوس وغيرهم ممن جاء بعده. وثمَّ مخطوطات تثبت أن البابليين كانوا على علم بهذا[1].

 

ذكر الإغريق والعرب لها

كان ذكر علماء الإغريق لهذه الظاهرة ذكرا مقتضبا، وذلك لأن أكثر كتب فلكييهم حرقت على مدى فترات، فحرق جزءا منها يوليوس قيصر، ثم جاء النصارى وحرق ثيوفيليس الأسكندراني كتبهم كذلك، ولم تبق إلا كتب عديدة ترجم أكثرها العرب والنصارى بعدُ، فوجدوا نصوصا لبطلميوس لهذه الظاهرة، فكان تعليله لها فيزيائيا؛ أي أن القمر يتغير حجمه تغيرا بحسب انعطاف[2] ضوءه في السماء، فيظهر لنا متغير الحجم. [3] وبينما ذهب كثير من الفلكيين في العصور الوسطى مذهبَ بطلميوس في تعليل هذه الظاهرة، فإن ابن الهيثم لم يذهب إليه، بل إلى سببٍ آخر يسمونه الآن غلطا بصريا نفسيا.

 

ابن الهيثم ونظريته في الإبصار

كان ابن الهيثم (ت 430هـ) كثير الولوع بعلم الضوء، وظواهره وكل ما يتصل به، وليس شيء أدل على ذلك من تأليف كتاب المناظر. وكان من بين الموضوعات التي ناقشها وأحسن وصفها هذه الظاهرة، وله في كيفية الإبصار وأغلاطه نظرية كاملة، إذ عنده أن طرق الإبصار ثلاثة: الحس والمعرفة والقياس، وجعل لكل طريق غلطًا، فللحس أغلاط في البصر وللمعرفة أغلاط وللقياس أغلاط. وهذه الظاهرة مندرجة تحت غلط القياس، لذلك سنركز عليه ونتجنب الغلطين الأخريين.

ومما بنى ابن الهيثم نظريته، شروطٌ ثمانيةٌ يجب أن تتحقق كلها بقدرٍ بحيث تجعل المرءُ يبصر الشيء على ما هو عليه، فإن انعدم شرط منهن كان الإدراك ناقصا. ولا يجب أن تتحقق كل الشروط تحققا مثاليا، بل يكفي أن يتحقق منها قدرٌ سمّاه "عرض الاعتدال"، فلكي يدرك المرء التفاصيل الدقيقة في المنحوتات مثلا يجب أن تكون شدة الإضاءة بقدر تجعلنا ندرك تلك التفاصيل الدقيقة، وهذا هو عرض الاعتدال، وهو يختلف باختلاف الظروف والشروط. والشروط هي: الاستضاءة والبعد المعتدل والمواجهة وشرط وقوع البصر على السهم المشترك والحجم المقتدر والكثافة وشفيف الوسط والزمان وسلامة البصر.

وعدّد ابن الهيثم عشرين معنى متعلقة بالقياس بها تُدرك كل الأجسام، وكل معنى منها قد يعتريها نقص في إحدى تلك الشروط الثمانية، لذلك يكون مجموع الحالات التي يكون الإدراك فيها ناقصا 160 حالة. ذكر ابن الهيثم منها 155 حالة.

 

ونظرا لكثرة الحالات، فإننا سنورد فقط الحالات التي تعني بظاهرة وهم القمر، وهما حالتان:

1-    الغلط في إدراك البعد بسبب خروجه عن عرض الاعتدال.

2-    الغلط في إدراك العظم بسبب خروج البعد عن عرض الاعتدال.

أما الحالة الأولى فإن المرء قد يغلط في تقدير بعد الجسم لسببين ذكرهما ابن الهيثم: إذا كان الجسم بعيدا جدا أو قريبا جدا والثانية إذا لم توجد أجسام متصلة تتوسط بين المبصر وبين البصر. فالنجوم مثلا لا يُعرف بعدها من جهة البصر لأنها بعيدة جدا ولأن ليس بينها وبين البصر أجسام متصلة، فنراها وكأنها على بعد واحد.

 والحالة الثانية فإنها نتيجة للحالة الأولى، فإن المرء يغلط في إدراك عظم الجسم إذا غلط في إدراك بعده، فإذا لم يدرك المرء بُعد الأجسام كما هي عليها، اعتمد على الحدس، والحدس إنما يعتمد على ما هو مألوف، فيقدّر المرء حينئذ البعدَ أصغر مما هو عليه، فيدرك العظم أصغر مما هو عليه.[4]

ابن الهيثم ووهم القمر

وصف ابن الهيثم هذه الظاهرة بعموم، يقول:

"إن كل كوكب إذا كان على سمت الرأس فإن البصر يدرك مقداره أصغر من مقداره الذي يدركه به من جميع نواحي السماء التي يتحرك عليها ذلك الكوكب. وكلما كان أبعد عن سمت الرأس كان ما يدركه البصر من مقداره أعظم من مقداره الذي يدركه وهو أقرب إلى سمت الرأس. وإن أعظم ما يدرك البصر من مقدار الكوكب هو إذا كان الكوكب على الأفق وكذلك أبعاد ما بين الكواكب. وهذا المعنى يشهد به الوجود"[5].

وشرح ابن الهيثم لهذه الظاهرة مبنيٌّ على أغلاط القياس التي ذكرناها في الأعلى؛ فعندما يكون القمر في الأفق تتوسط بينه وبين البصر أجسام، فيحدس المرء بعده عليها، فيرى القمر في الأفق أبعد منه في وسط السماء، ويقر أن المرء يرى السماء كالسطح المستوي تتفاوت أبعاد الأجسام بقربها من البصر، فإن كانت قريبة من البصر رآها أقل بعدا وإن كانت بعيدة عن البصر رآها أكثر بعدا. يقول:

"إن البصر يدرك سطح السماء الذي يلي البصر مسطحًا ولا يحس بتقعيره وتساوي أبعاده من المبصر. وهو مستقر في النفس أن السطوح المستوية الممتدة من جميع الجهات إلى حوالي البصر مختلفة الأبعاد عن البصر، وهو يدرك ما يلي الأفق من السماء أبعد عنه من وسط السماء، ويدرك ما قرب من الأفق أبعد مما قرب من وسط السماء"[6].

ولما كانت زاوية رؤية القمر في وسط السماء تساوي رؤيته وهو في الأفق، يكون القمر أبدا في الأفق أعظم منه وهو في وسط السماء، كما هو موضح في الصورة.[7][8] هذا شرح ابن الهيثم للظاهرة.

 




[1] Helen E. Ross, Cornell Plug, The Mystery of the Moon Illusion Exploring Size Perception, p2.

 

[2] الانعطاف هو انكسار الضوء بالتعبير الحديث.

[3] المرجع السابق، ص5.

[4] المرجع السابق، ص318

[5] المرجع السابق، صـ334.

[6] المرجع السابق، صـ336.

[7] https://www.pnas.org/doi/10.1073/pnas.97.1.500.

[8] المرجع السابق، ص337.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا السماء زرقاء وكيف يغير الضوء سرعته؟

في التكافؤ المنطقي بين مقولتي كلفن-بلانك وكلاوسيوس

مُعادلات البُنية النّجمية