تأثيرات فيزياء الكم في المقاييس الفلكية
النفق الكمومي (Quantum tunneling)
ينص مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج uncertainty principle أنه لا يُمكن قياس خاصيتين كميتين مثل الموقع والزخم أو الطاقة والزمن بشكل دقيق في نفس الوقت. أي إذا استطعنا تحديد موقع جسيم بدقة، فإننا لا نستطيع تحديد مقدار زخمه والعكس صحيح.
تخيل معي الآن أنّك تقوم برمي كرة إلى الجدار ثم ترتد هذه الكرة إليك، وتُعيد العملية لفترة من الزمن. برأيك هل ستستطيع الكرة اختراق الجدار والخروج إلى الطرف الآخر منه بعد مُدة من الزمن؟ الجواب البديهي هو ﻻ، ﻷن هذا هو الحال في حياتنا اليومية. ولكن ماذا لو كانت هذه الكرة عبارة عن إلكترون؟
حسب ميكانيكا الكم، فإن الإلكترونات لها طبيعة موجية وجسيمية في ذات الوقت، وليس لها موقع ثابت يُمكن تحديده، فهي تنتشر مثل الموجة وهناك دائما احتمال لوجودها في أي مكان. في المثال السابق، قد يرتد الإلكترون عدة مرات من الجدار، وقد يحالفه الحظ ويخترق الجدار فيَصِل إلى الطرف الآخر، وهذا يحدث بسبب مبدأ عدم اليقين، أي أن الإلكترون بإمكانه امتلاك مقدار مختلف من الطاقة في أوقات مختلفة. إن مثل هذه العمليات التي يستطيع فيها الإلكترون أو أي جسيم كمّي آخر اختراق حاجزٍ ما تُسمى في ميكانيكا الكم بالنفق الكمومي (Quantum tunneling).
عبور جسيم لحاجز ما باستخدام النفق الكمومي
الجسيماتِ الافتراضيةِ Virtual particles
هل الفضاء الفارغ، فارغ حقًا؟
قد تظن أنَّ الفضاء عبارة عن امتدادٍ لا نهايةَ له، مليءٌ بالمجرات والنّجوم وعناصِرُها المتناثِرة. ولكن ماذا عن الأماكِن التي ﻻ تحتوي على شيءٍ في الفضاء؟ هل هي فارغة حقًا؟
بدايةً دعنا نعرف ما هو الفراغ. تُخبِرنا فيزياء الكم أن الجزيئات ﻻ يُمكِن أنْ تكونَ موجودةً إلا إذا امتلكتْ طاقة. وبالتالي فإن الأماكن التي تخلو من الطاقة، ﻻ توجد بها جسيمات وهذه الأماكن تُسمى بالفراغ. كما تُخبرنا النّظرية الكمّية أنّ الفضاء عبارة عن حقول طاقة كمومية متذبذبة مع مجال خاص لكل جسيم من الإلكترونات والنيوترونات والكواركات. عندما تتذبذب وتهتز هذه الحقول الكمومية، فإنّها تُنتجُ طاقةً طفيفةً ولكنها كافية لتكوينِ جسيماتٍ تُسمى بالجسيماتِ الافتراضيةِ Virtual particles. وهذا يعني أنَّ الفراغ ليس فارغًا فعلًا وإنّما مليءٌ بالجسيماتِ الافتراضية.
على حسب مبدأ عدم اليقين، فالجسيمات الافتراضية تستطيع أن تتواجد من لا شيء وذلك عن طريق سرقة قدرًا من الطاقة لتستطيع الحصول على الكتلة، ثم إعادتها قبل أن يتم تأكيد وجودها. وتنشأ الجسيمات الافتراضية على شكل أزواج، جسيمات ومضادات الجسيمات، تنشأُ سويًا ثُمَّ تُفني بعضها البعض مِنَ الوجودِ بعد فترةٍ قصيرةٍ من الزمن. وكلما زادتْ الطاقة التي يمتلكها الجسيم أو مضاد الجسيم الافتراضي، قلّتْ الفترة الزمنية التي يكون متواجِدًا فيها. يُشبه الأمر وجودَ بنكٍ كونيٍّ يُخزّن الطاقةَ بدلًا من النقودِ، ثم تأتي الجسيماتُ الافتراضيةُ فتسرِق من البنك قدرًا من الطاقةِ لتستطيع التواجدَ لفترةٍ قصيرةٍ وثمَّ تُعيد هذه الطاقة دون أنْ يَلحَظَ صاحِب البنكِ، فتتلاشى من الوجود مرةً أخرى. من الممكن أن تتساءل لماذا يبدو الفراغ فارغًا رغم أنه يعجّ بالجسيمات الافتراضية؟ سبب ذلك هو أنه لا يُمكن استخراج الطاقة التي تسرقها هذه الجسيمات قبل أن تتلاشى. بمعنى آخر، لا تستطيع الجسيمات الحقيقية التي نستطيع رصدها بأجهزتنا أن تتفاعل مع الجسيمات الافتراضية وهذا ما يجعل جسيمات الفراغ غير مفهومة بالنسبة لنا. قد يبدو لك الأمر خياليًّا وغير منطقي. تبدو فيزياء الكم هكذا على الدوام. رغم ذلك فهناك دليل على وجود هذه الجسيمات المُراوِغة.
حسب مبادئ ميكانيكا الكم، فهذه الجسيمات توجد عندما ﻻ تشاهدُها فقط وبالتالي كان يجب إيجاد طريقة تُمَكِنُنا من مُلاحظتها دون مشاهدتها، وهذا ما قام به العالم هندريك كاسيمير Hendrick Casimir في عام 1948، حين جاء بفكرة ذكية ساعدتْ على إثبات أن طاقة الفراغ (مجموع الطاقة الكليّة للجسيمات الافتراضية في الفراغ) حقيقية وبالتالي إثبات وجود الجسيمات الافتراضية.وكذلك يُمكن تفسير وجودها منطقيًا بواسطة مبدأ عدم اليقين لهايزنبرغ Heisenberg، والذي يَنُص على أنّه ﻻ يمكننا تحديد كُلًا من الطاقة والزمن معًا بشكل دقيق، أي إذا حاولنا تحديد الوقت لجسيمٍ ما، فإنَّنا ﻻ نستطيع تحديد مقدار الطاقة التي يمتلكها ذلك الجسيم. وبالتالي في حالة الفراغ، فالجُسيم يُحتمل أنْ يحملَ مِقدارًا من الطاقة وبالتالي يكون موجودًا.
الجسيمات الافتراضية والكون
والآن بعد أنْ أثبتنا وجود الجسيمات الافتراضية، ما فائدة معرفتنا بوجودها؟ وما علاقتِها بفهمِنا للكون؟
رغم عدم قدرتنا على رصد هذه الجسيمات، فهذا لا يعني أنها غير مهمة، ﻷن الجسيمات الافتراضية لها تأثيراتٍ كبيرةٍ على الجسيمات الحقيقية والكون ككل.
بالعودة إلى الانفجار العظيم وبدايةِ الكون حين نشأتْ المادة الأولى على شكل جسيمات ومضادات الجسيمات وتَوَزَعتْ في الكون، تكوّنت خلال ذلك الوقت جسيمات افتراضية كذلك، وبسبب التوسع السريع للكون، ظلّتْ بعض هذه الجسيمات موجودة لأن مضادها قد ابتعد عنها ولم تستَطع إفناء نفسها، مما أدى إلى توزع المادة ومضادات المادة بشكل غير متساوٍ. وبالتالي سنجد أنه بدون طاقة الفراغ ستتوزعُ الجسيمات ومضادات الجسيمات بشكل متجانس، مما يعني أن الكون لن يحتوي على أي شيء، ﻷن الجسيمات ومضادات الجسيمات ستُفني بعضها البعض مباشرةً ولن يكونَ هناك وجود للمادة المُكَوِّنة للكون.
هل ستبقى الثقوبُ السوداء موجودةً للأبد؟
لا ينحصر تأثير الجسيمات الافتراضية على بداية الكونِ فقط، فهي تؤثر على المكانس الكونية الهائلة، الثقوب السوداء.
عندما يتواجد الجسيم والجسيم المُضاد قريبين من بعضهما البعض، فإنهما يُفنِيان بعضهما البعض، ولكن ماذا سيحدث برأيك إذا تواجد أحدهما بالقرب من أفق حدث Event horizon لأحد الثقوب السوداء؟
في هذه الحالة، سيسقط الجسيم أو مضاد الجسيم داخل الثقب الأسود ويهرب الآخر إلى الفضاء، وهو ما يُسبب تَبَخّر الثقوب السوداء والتي تُعرف بإشعاعِ هوكينغ Hawking radiation. تتبخرُ الثقوب السوداء حين تفقدُ جزءًا من كتلتِها ﻹنتاج الطاقة التي تحتاجها الجسيمات الافتراضية لتصبح جسيمات حقيقية. وتحتاج الثقوب السوداء زمنًا طويلًا جدًا حتى تختفي وتتلاشى بالكامل.
هل يُمكن أن تتحول الجسيمات الافتراضية إلى جسيمات حقيقية؟
لفهم تأثير الجسيمات الافتراضية على الثقوب السوداء بشكل أوضح، دَعنا نوِّسع خيالنا بشأن البنك الكونيّ للطاقة وصاحِب البنك الذي سيُحاسب أي جسيم يسرِق طاقةً من البنك بغيرِ حق. إذا افترضنا ظهور إلكترون افتراضي فسيكون مَصحوبًا ببوزيترون افتراضي (مضاد الإلكترون) أيضًا، بحيث تكون الشحنة الكلية للجسيمين تساوي صفرًا بناءً على قانون حفظ الطاقة. ومثل كل الجسيمات الافتراضية، فالالكترون الافتراضي ومضاده يجب أن يسرقا طاقة من البنك الكونيّ ويُعيداها إليه قبل أنْ يكتشفهما صاحِب البنك، وإلا سيتحولان إلى جسيمين حقيقين وعليهما أن يدفعا ثمن السرقة.
الآن تخيل ظهورهما بالقرب من أفق حدث لثقبٍ أسود، وقام أحدهما بعبور أفق الحدث قبل أن يُفنيا بعضهما البعض. سينجو هذا الأخير من محاسبة صاحب البنك ﻷنه سيختفي داخِل الثقب الأسود، وأمّا الجسيم الآخر فلن يجِد طريقةً ﻹبادة نفسه، وبالتالي سيُقبَض عليه متلبِسًا من قِبَل صاحب البنك، وهذا سيجعله جسيمًا حقيقيًا ﻷنه يمتلك الآن طاقة حقيقية. وﻷن لكل شيءٍ ثمن، فيجب أن يدفع شخصٌ ما أو شيءٌ ما ثمن الطاقة المسروقة، وﻻ يستطيع الجسيم أن يدفع الثمن ﻷن رفيقه قد غادر، وبالتالي سيطلب صاحب البنك من الثقب الأسود أن يتكفل بثمن الطاقة عن طريق التخلي عن القليل من طاقته والذي يؤدي إلى نقصان كتلته وإنتاج إشعاع هوكينج، ثمّ انكماش الثقب الأسود.
إنّ فكرة تبخر الثقوب السوداء ﻻ تزال غير مُختَبرة، ولكن إذا تم إثبات صحتها، فسيكون لها تأثيرات كبيرة على أصل ونهاية الكون. فالثقوب السوداء التي يُفترَض أنها نشأتْ في بدايات الكون، يجب أن تكون قد تبخرتْ بحلول هذا الوقت. ومع استمرار الكون في التَّوسع والوقت في التقدم، ستكون الثقوب السوداء هي آخر من يتلاشى بعد موت جميع النجوم والمجرات. مما يعني أنّ الكون في النهاية سيخلو من كل شيءٍ ما عدا فوتونات وجسيمات دون الذرية منتشِرة على مسافات قصيّة.
_________________________________________________________
المصادر:
1. The cosmic perspective , sixth edition
2. https://science.nasa.gov/universe/stars/
3. The nature of nothingness: Understanding the vacuum catastrophe
تعليقات
إرسال تعليق